رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الولادة إلى البعثة‏


إن الحمد والشكر لله الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله، وجعل فيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، والصلاة والسلام على نبينا محمد عظيم الأباء من آدم -عليه السلام- إلى عبدالله بن عبدالمطلب وكريم الأمهات من حواء- عليها السلام- إلى آمنة بنت وهب، حيث قال تعالى ﴿وَتَقَََلبَكَ فِي السَاجِدِيْنَ[الشعراء:219] وعلى آله الطيبين وصحبه الهادين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وفجّر لهم ينابيع الرحمة والرضوان تفجيرا‏، وبعد:
أن رسول الله محمد- صلى الله عليه وسلم - جاء قوما لا يعرفون الربوبية، ويعبدون الأصنام، وينكرون البعث، ولا يعرفون نبوة ولا طهارة ولا صلاة، ويسفكون دماءهم ويئدون بناتهم فرارا من العار. فدعاهم إلى الربوبية، وإلى الإقرار بالنبوة والبعث والقيامة، وأخذهم بالصدق والوفاء وأداء الأمانة والخضوع للحق، ومساواة الموالي والفقراء والأعاجم والضعفاء في الدماء، وأخذهم بالبراءة من آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، وجعلهم أمة واحدة بتأليف قلوبهم بعضهم بعضا حيث قال –تعالى-:﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوانًا. وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ .[آل عمران:103] وشرفهم الله تعالى خير أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ببعثة رسوله الكريم.
فحاولت في هذا البحث الضئيل تصوير السيرة النبوية -  صلى الله عليه وسلم - من الولادة  إلى البعثة.

v    نسب النبي صلى الله عليه وسلم:
من المعلوم أن النبي – صلى الله عليه وسلم-من أشرف القبائل العربية واتصلت سلسلة نسبه بقبيلة قريش وهي من القبائل العربية الشريفة من قديم الزمان كما ذكر أصحاب المؤلفات والسيرة النبوية كما في التالي : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصَىّ كِلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فِهْر ـ وهو الملقب بقريش وإليه تنتسب القبيلة ـ بن مالك بن النَّضْر بن كِنَانة بن خُزَيْمَة بن مُدْرِكة بن إلياس بن مُضَر بن نِزَار بن مَعَدّ بن عدنان‏.‏[1]
اتفق على هذه السلسلة المذكورة جميع علماء التاريخ وأصحاب السير. أما سلسلة نسبه من عدنان إلى سيدنا آدم -عليه السلام- اختلف بعض من العلماء فلذا نتركها.


v    المولـــد:
ولـد سيـد المرسلـين- صلى الله عليه وسلم- بشـعب بني هاشـم في صبيحـة يــوم الاثنين التاسع من ضوء القول الصحيح أما أشهرها الثاني عشر مـن شـهر ربيـع الأول عـام الفيـل، ويوافق ذلك عشرين/ اثنين وعشرين من شهر إبريل سنة 571 م كما روي عن ابن عباس وجابر[2]. أنه ولد مختونا ومسرورا كما قال النبي عليه السلام{من كرامتي علي ربي إني ولدت مختونا ولم يرى أحد من سوآتي}[3] في أشرف بيت من بيوت العرب،فهو من أشرف فروع قريش، وهم بنو هاشم وقريش أشرف قبيلة في العرب، وقد روي عن العباس رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم من خير فرقهم، وخير الفريقين، ثم تخير القبائل، فجعلني من خير قبيلة، ثم تخير البيوت، فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا، وخيرهم بيتا}.[4]
روى أبو نعيم عن عمر بن كتيبة: «لما حضرت آمنة الولادة قال للملائكة افتحوا أبواب السماء كلها وأبواب الجنان وألبست الشمس نوراعظيما»[5].
وقالت آمنة: «إن ابني والله سقط فنظرت إليه فإذا هوساجد قد رفع رأسه الى السماء وقال بإشارة اصبعيه وبلسان فصيح أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله’’ثم خرج منه نور حتى نظرت الى قصور كسرى وسمعت في الضوء قائلاً يقول: انك قد ولدت سيد الناس فسميه محمداً».[6]

وقد روى« أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى، وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت »[7]، روى ذلك الطبرى والبيهقى وغيرهما‏.‏

وقال العلامة التلمساني: «كل مولود غير الأنبياء يولد من الفرج وكل الأنبياء -عليهم السلام- مولودون من فوق الفرج وتحت السرة ولم يصح نقل أن نبيا من الأنبياء ولد من الفرج ولهذا أفتى المالكية بقتل من قال إن النبي ولد من مجري البول».[8] 

ولما ولدته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب تبشره بحفيده، فجاء مستبشرًا ودخل به الكعبة، ودعا الله وشكر له‏.‏ واختار له اسم محمد ـ وهذا الاسم لم يكن معروفًا في العرب.[9]

v    نشأة النبي صلى الله عليه وسلم:
أنه نشأ يتيما، فقد مات أبوه عبد الله قبل ولادته ستة أشهر وأمه حامل به فحسب، ولما أصبح له من العمر ست سنوات ماتت أمه آمنة فذاق - صلى الله عليه وسلم - في صغره مرارة الحرمان من عطف الأبوين وحنانهما، وقد كفله بعد ذلك جده عبد المطلب، ثم توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثمان سنوات، فكفله بعد ذلك عمه أبو طالب حتى نشأ واشتد ساعده، وإلى يتمه أشار القرآن الكريم بقوله:﴿لَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى [الضحى:6].

v    في بادية بني سعد- رضاعته المباركة:
أرضعته أمه سبعة أيام ثم ثويبة أياما فالتمس عبد المطلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم المراضع، واسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر، وهي حليمة بنت أبي ذؤيب عبد الله بن الحارث من مضر،لأن العادة كانت عند الحاضرين من العرب أن يلتمسوا المراضع لأولادهم ابتعادًا لهم عن أمراض الحواضر؛ ولتقوية أجسامهم، وتشتد أعصابهم، ويتقنوا اللسان العربى في مهدهم، حيث روى ابن شهر آشوب وابن إسحاق وغيرهم:« قالت حليمة السعدية إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فاذا برجل ينادي ايتها المرضعات هل منكن من لم تأخذ طفلاً؟ فقلت من هو هذا؟ قيل: عبد المطلب بن هاشم سيد مكة، فذهبت اليه، فقال لي: من انت؟ قلت حليمة من بني سعد فتبسم وقال: بخ بخ خصلتان جيدتان سعد وحلم فيهما عز الدهر وعز الابد، ثم قال يا هذه عندي بني لي يتيم اسمه محمد وأبين المرضعات أخذه، لانه يتيم، وانما يكرم الظئر الوالد فحملته لأني لم أجد غيره وذهبت الى بيت آمنة فلما وضعته في حضني فتح عينه لينظر بهما الي فسطع منهما نور فشرب من ثدي الأيمن ساعة ولم يرغب في الأيسر اصلاًُ واستعمل في رضاعه عدلاً، فناصف فيه شريكه فاقبل ثدياي باللبن، وقام زوجي الى شارفنا تلك يلمسها بيده، فاذا هي حافل،  فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعا، فبتنا بخير ليلة.
 فقالت‏:‏ يقول صاحبى حين أصبحنا‏:‏ تعلمي والله يا حليمة، لقد أخذت نسمة مباركة، قالت‏:‏ فقلت‏:‏ والله إنى لأرجو ذلك‏.‏ قالت‏:‏ ثم خرجنا وركبت أنا أتانى، وحملته عليها معى، فوالله لقطعت بالركب ما لا يقدر عليه شىء من حمرهم، حتى إن صواحبى ليقلن لى‏:‏ يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك‏!‏ أرْبِعى علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها‏؟‏ فأقول لهن‏:‏ بلى والله، إنها لهي هي، فيقلن‏:‏ والله إن لها شأنًا، قالت‏:‏ ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد، وما أعلم أرضًا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمى تروح علىَّ حين قدمنا به معنا شباعًا لُبَّنـًا، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم‏:‏ ويلكم، اسرحوا حيث يسرح راعى بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعًا ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمى شباعًا لبنًا‏.‏ وكان يشب شبابًا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلامًا جفرًا»‏.[10]


v    ظل الغمام:
كانت حليمة السعدية لاتدعه يذهب مكانا بعيدا فغفلت عنه يوما مع أخته الرضاعة الشيما في ظهيرة إلى البهم فخرجت حليمة تطلبه حتى تجده مع أخته فقالت: « في هذا الحر؟» فقالت أخته: «يا امت ما وجد أخي حَرًّا، رأيت غمامة تظل عليه إذا وقف وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع». وروي عن ابن عباس  أنه قال: «فلما ترعرع  كان يخرج وينظر إيى الصبيان يلعبون فيجنبهم الحديث وتظل عليه الغمام».[11]   
فلما كان عمره –عليه السلام- سنتين ففصل عن الرضاعة لتعليم الناس حكم الله تعالى فيها كما جاء في كتاب مبين ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ[لقمان:14]
وأخرج البيهقي وإبن عساكرعن إبن عباس قال كانت حليمة تحدث أنها أول ما فطمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا. [12]

وبعد الفصال ذهبت حليمة إلى أم رسول الله –عليه السلام-حيث قالت‏: فقدمنا به على أمه ونحن أحرص على مكثه فينا، لما كنا نرى من بركته، فكلمنا أمه، وقلت لها‏:‏ لو تركته عندي حتى يغلظ، فإني أخشى عليه وباء مكة، قالت‏:‏ فلم نزل بها حتى ردته معنا فرجعنا به‏.‏[13]

v    شق الصدر :
إذا كان بعده بأشهر على قول ابن إسحاق، وفي السنة الرابعة من مولده على القول الأصح وقع حادث شق صدره، روى مسلم عن أنس‏:‏« أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال‏:‏ هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طَسْت من ذهب بماء زمزم، ثم لأَمَه ـ أي جمعه وضم بعضه إلى بعض ـ ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه ـ يعنى ظئره ـ فقالوا‏:‏ إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه وهو مُنْتَقِعُ اللون ـ أي متغير اللون ـ» قال أنس‏:‏ «وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره».[14]
وقال الإمام القسطلاني : «والحكمة في شق صدره الشريف في حال صباه واستخراج العلقة منه تطهيره عن حالات الصبا حتى يتصف في سن الصبا بأوصاف الرجولية ولذالك نشأ - صلى الله عليه وسلم- على أكمل الأحوال من العصمة». [15]


v    إلى حضن أمه الحنون:
وخشيت عليه حليمة بعد هذه الواقعة حتى ردته إلى أمه، فكان عند أمه إلى أن بلغ ست سنين‏.‏
ورأت آمنة ـ وفاء لذكرى زوجها الراحل ـ أن تزور قبره بيثرب، فخرجت من مكة قاطعة رحلة تبلغ نحو خمسمائة كيلومتر ومعها ولدها اليتيم محمد - صلى الله عليه وسلم - وخادمتها أم أيمن، وقيمها عبد المطلب، فمكثت شهرًا ثم قفلت، وبينما هي راجعة إذ لحقها المرض في أوائل الطريق، ثم اشتد حتى ماتت بالأبْوَاء بين مكة والمدينة‏.[16]

v    إلى جده العطوف :
وعاد به عبد المطلب إلى مكة، وكانت مشاعر الحنو في فؤاده تربو نحو حفيده اليتيم الذي أصيب بمصاب جديد نَكَأ الجروح القديمة، فَرَقَّ عليه رقة لم يرقها على أحد من أولاده، فكان لا يدعه لوحدته المفروضة، بل يؤثره على أولاده، قال ابن هشام‏:‏ كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالًا له، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتى وهو غلام جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأي ذلك منهم‏:‏ « دعوا ابني هذا، فوالله إن له لشأنًا»، ثم يجلس معه على فراشه، ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه يصنع‏.‏[17]
وفي يوم قال عبد المطلب لأم أيمن : « يا بركة! لاتفعلي عن ابني فإني وجدته مع غلمان  من السدرة وإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني هذا نبي هذه الأمة »[18]
ولثمانى سنوات وشهرين وعشرة أيام من عمره صلى الله عليه وسلم توفي جده عبد المطلب بمكة، ورأي قبل وفاته أن يعهد بكفالة حفيده إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه.[19]

v    إلى عمه الشفيق :
ونهض أبو طالب بحق ابن أخيه على أكمل وجه، وضمه إلى ولده وقدمه عليهم واختصه بفضل احترام وتقدير، وظل فوق أربعين سنة يعز جانبه، ويبسط عليه حمايته، ويصادق ويخاصم من أجله.

v    يُستسقى الغمام بوجهه :
أخرج ابن عساكر عن جَلْهُمَة بن عُرْفُطَة قال‏:‏ قدمت مكة وهم في قحط، فقالت قريش‏:‏« يا أبا طالب! أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهَلُمَّ فاستسق»، فخرج أبو طالب ومعه غلام، كأنه شمس دُجُنَّة، تجلت عنه سحابة قَتْمَاء، حوله أُغَيْلمة، فأخذه أبو طالب، فألصق ظهره بالكعبة،ولاذ الغلام بأصبعه، وما في السماء قَزَعَة، فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا وأغدق واغْدَوْدَق، وانفجر الوادي، وأخصب النادي والبادي، وإلى هذا أشار أبو طالب حين قال‏:‏
وأبيضَ يُستسقى الغَمَام بوجهه ** ثِمالُ اليتامى عِصْمَةٌ للأرامل
يلوذُُ به الهُلاَّك من آل هَاشِمٍ**  فهم عندَه في نِعمةٍ وفضَائلِ. [20]

v    بَحِيرَى الراهب :
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتى عشرة سنة ـ قيل‏:‏ وشهرين وعشرة أيام ـ ارتحل به أبو طالب تاجرًا إلى الشام، حتى وصل إلى بُصْرَى ـ وهي معدودة من الشام، وقَصَبَة لحُورَان، وكانت في ذلك الوقت قصبة للبلاد العربية التي كانت تحت حكم الرومان‏.‏ وكان في هذا البلد راهب عرف بَبحِيرَى، واسمه ـ فيما يقال‏:‏ جرجيس-فلما نزل الركب خرج إليهم، وكان لا يخرج إليهم قبل ذلك، وعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصفته فقال وهوآخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:‏ « هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين‏ ».‏ فقال له ‏(‏أبو طالب و)‏ أشياخ قريش‏:‏ (‏و‏) ما علمك ‏(‏بذلك‏)؟‏ فقال‏:‏« إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجدًا، ولا يسجدان إلا لنبى، وإنى أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، (‏وإنا نجده في كتبنا‏) »، ثم أكرمهم بالضيافة، وسأل أبا طالب أن يرده، ولا يقدم به إلى الشام؛ خوفًا عليه من الروم واليهود، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة.[21]

v    حرب الفجار :
وفي السنة العشرين من عمره صلى الله عليه وسلم وقعت في سوق عُكاظ حرب بين قريش ـ ومعهم كنانة ـ وبين قَيْس عَيْلان، تعرف بحرب الفِجَار وسببها‏:‏ أن أحد بني كنانة، واسمه البَرَّاض، اغتال ثلاثة رجال من قيس عيلان، ووصل الخبر إلى عكاظ فثار الطرفان، وكان قائد قريش وكنانة كلها حرب بن أمية؛ لمكانته فيهم سنا وشرفًا، وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة، حتى إذا كان في وسط النهار كادت الدائرة تدور على قيس‏.‏ ثم تداعى بعض قريش إلى الصلح على أن يحصوا قتلى الفريقين، فمن وجد قتلاه أكثر أخذ دية الزائد‏.‏ فاصطلحوا على ذلك، ووضعوا الحرب، وهدموا ما كان بينهم من العداوة والشر‏.‏ وسميت بحرب الفجار؛ لانتهاك حرمة الشهر الحرام فيها، وقد حضر هذه الحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وكان ينبل على عمومته؛ أي يجهز لهم النبل للرمي‏، حيث قال النبي –عليه السلام- {كنت أنبل أعمامي}.[22]

v    حلف الفضول :
وعلى أثر هذه الحرب أسس جمعية بعنوان "حلف الفضول" في ذى القعدة في شهر حرام تداعت إليه قبائل من قريش‏:‏ بنو هاشم، وبنو المطلب،وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جُدْعان التيمى؛ لسنِّه وشرفه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته،كما قال عمرو بن عوف:                     
إن الفضول تحالفوا وتعاقدوا- أن لا يقر ببطن مكة ظالم
أمر عليه تعاهدوا وتواثقوا – فالجار والمعتر فيهم سالم
 وشهد هذا الحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال بعد أن أكرمه الله بالرسالة‏:‏{‏لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لى به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت}.‏[23]

وهذا الحلف روحه تنافي الحمية الجاهلية التي كانت العصبية تثيرها، ويقال في سبب هذا الحلف‏:‏ إن رجلًا من زُبَيْد قدم مكة ببضاعة، واشتراها منه العاص بن وائل السهمى، وحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الأحلاف عبد الدار ومخزومًا، وجُمَحًا وسَهْمًا وعَدِيّا فلم يكترثوا له، فعلا جبل أبي قُبَيْس، ونادى بأشعار يصف فيها ظلامته رافعًا صوته، فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال‏:‏ ما لهذا مترك‏؟‏ حتى اجتمع الذين مضى ذكرهم في حلف الفضول، فعقدوا الحلف ثم قاموا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه حق الزبيدي‏[24].

v    نشاطاته في الشباب:
ولم يكن له - صلى الله عليه وسلم - عمل معين في عنفوان شبابه، إلا أن الروايات توالت أنه كان يرعى غنمًا، رعاها في بني سعد، وفي مكة لأهلها على قراريط، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:{ما من نبي إلا قد رعى الغنم} قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: {وأنا}[25] ويبدو أنه انتقل إلى عمل التجارة حين شب، فقد ورد أنه كان يتجر مع السائب بن أبي السائب المخزومي فكان خير شريك له، لا يدارى ولا يمارى، وجاءه يوم الفتح فرحب به، وقال‏:‏ «مرحبًا بأخي وشريكي »‏.‏
وفي الخامسة والعشرين من سنه خرج تاجرًا إلى الشام في مال خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها- حيث قال ابن إسحاق‏:‏« كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم، وكانت قريش قومًا تجارًا، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرًا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره من التجار، مع غلام لها يقال له‏:‏ ميسرة، فقبله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام‏. فجلس تحت الشجرة قريبا عن كنيسة، فخرج الراهب منها ودنا إلى رسول الله وسأل ميسرة من الذي جلس تحت هذه الشجرة؟ فأجبت:هذا رجل من قريش، فلما رأىالراهب الخاتم قبله وقال أمنت بك وأشهد أنك النبي الذي بشر به عيسى فإنه قال لاينزل بعدي تحت هذه الشجرة إلا النبي الأمي الهاشمي العربي المكي....».[26]

v    زواجه بخديجة :
ولما رجع إلى مكة، ورأت خديجة في مالها من الأمانة والبركة ما لم تر قبل هذا، وأخبرها غلامها ميسرة بما رأي فيه صلى الله عليه وسلم من خلال عذبة، وشمائل كريمة، وفكر راجح، ومنطق صادق، ونهج أمين، وجدت ضالتها المنشودة ـ وكان السادات والرؤساء يحرصون على زواجها فتأبي عليهم ذلك ـ فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منبه، وهذه ذهبت إليه - صلى الله عليه وسلم - تفاتحه أن يتزوج خديجة، فرضى بذلك، وكلم أعمامه، فذهبوا إلى عم خديجة عمرو بن أسد وخطبوها إليه، وعلى إثر ذلك تم الزواج، وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر، وذلك بعد رجوعه من الشام بشهرين، وأصدقها عشرين بَكْرة‏.‏ وكانت سنها إذ ذاك أربعين سنة، وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسبًا وثروة وعقلًا، وهي أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت‏.‏ [27]

وكل أولاده - صلى الله عليه وسلم- منها سوى إبراهيم،ولدت له‏:‏ أولًا القاسم ـ وبه كان يكنى ـ ثم زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، وعبد الله‏.‏ وكان عبد الله يلقب بالطيب والطاهر، ومات بنوه كلهم في صغرهم، أما البنات فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن، وكلهن أدركتهن الوفاة في حياته صلى الله عليه وسلم سوى فاطمة رضي الله عنها، فقد تأخرت بعده ستة أشهر ثم لحقت به.[28]

v    بناء الكعبة وقضية التحكيم :
ولخمس وثلاثين سنة من مولده صلى الله عليه وسلم قامت قريش ببناء الكعبة، وذلك لأن الكعبة كانت رَضْمًا فوق القامة، ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إسماعيل عليه السلام، ولم يكن لها سقف، فسرق نفر من اللصوص كنزها الذي كان في جوفها، وكانت مع ذلك قد تعرضت ـ باعتبارها أثرًا قديما ـ للعوادى التي أدهت بنيانها، وصدعت جدرانها، وقبل بعثته صلى الله عليه وسلم بخمس سنين جرف مكة سيل عرم انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حرصًا على مكانتها، واتفقوا على ألا يدخلوا في بنائها إلا طيبًا، فلا يدخلون فيها مهر بغى ولا بيع ربًا ولا مظلمة أحد من الناس، وكانوا يهابون هدمها، فابتدأ بها الوليد بن المغيرة المخزومى، فأخذ المعول وقال‏:‏ « اللّهم لا نريد إلا الخير»، ثم هدم ناحية الركنين، ولما لم يصبه شيء تبعه الناس في الهدم في اليوم الثاني، ولم يزالوا في الهدم حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم،ثم أرادوا الأخذ في البناء فجزأوا الكعبة، وخصصوا لكل قبيلة جزءًا منها‏.‏ فجمعت كل قبيلة حجارة على حدة، وأخذوا يبنونها، وتولى البناء بناء رومي اسمه‏:‏ باقوم‏.‏ ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه، واستمر النزاع أربع ليال أو خمسًا، واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم، إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومى عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد فارتضوه، وشاء الله أن يكون ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه هتفوا‏:‏ هذا الأمين، رضيناه، هذا محمد، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر طلب رداء فوضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعًا بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه، وهذا حل حصيف رضى به القوم‏.‏

وقصرت بقريش النفقة الطيبة فأخرجوا من الجهة الشمالية نحوا من ستة أذرع، وهي التي تسمى بالحجر والحطيم، ورفعوا بابها من الأرض؛ لئلا يدخلها إلا من أرادوا، ولما بلغ البناء خمسة عشر ذراعًا سقفوه على ستة أعمدة‏.‏ [29]
فكان النبي الأمين صلى الله عليه وسلم يمتاز في قومه بخلال عذبة وأخلاق فاضلة، وشمائل كريمة، فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأعزهم جوارًا، وأعظمهم حلمًا، وأصدقهم حديثًا، وألينهم عَرِيكة، وأعفهم نفسًا وأكرمهم خيرًا، وأبرهم عملًا، وأوفاهم عهدًا، وآمنهم أمانة حتى سماه قومه‏:‏ ‏[‏الأمين‏]‏ لما جمع فيه من الأحوال الصالحة والخصال المرضية، وكان كما قالت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها يحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق. فحق قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيْ رَسُوْلِ اللهِ أُسْوَة حَسَنَة [الأحزاب:21]

v    استنتاج
إن استقامة الداعية في شبابه وحسن سيرته أدعى إلى نجاحه في دعوته إلى الله، وإصلاح الأخلاق، ومحاربة المنكرات.








المصادر والمراجع:
v    القران الكريم
v    الكشيري، مسلم بن حجاج. صحيح مسلم. دهلي: مكتب الرشيدية، 1378هـ.
v    السيوطي، جلال الدين. خصائص كبرى. مصر: دار التوفيقية، 2010م.
v    الدهلوي، الشيخ عبد الحق المحدث. مدارج النبوة.  دهلي:أدبي دنيا، 1997م.
v    الدمشقي، إسماعيل ابن كثيرالقرشي. البداية والنهاية. مصر: مكتبة السيادة، 1332هـ.
v    العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر. فتح الباري. بيروت: دار السلام، 2004م.
v    الزرقاني، علامة عبد الباقي. شرح المواهب اللدنية. باكستان:مكتبة المدينة،2005م.
v     المباركبوري، علامة صفي الرحمن. الرحيق المختوم. ط-1.داكا:تاج كمباني،2006م.
v    الجونفوري، مولانا عبد الأول. عمدة النقول في كيفة ولادة الرسول.
v    النجدي،محمد بن عبد الوهاب.مختصر السيرة الرسول.مصر:مطبع السلفية،1375هـ.
v    القسطلاني، الإمام أحمد بن محمد. المواهب اللدنية. ط-3. باكستان:مكتبة المدينة،1431هـ.
v    ابن سعد، محمد. الطبقات الكبرى. الهند: مطبع بريل، 1322هـ.
v    د.أكم عبد القادر. سيرة سيد المرسلين. ط-1. شيتاغونغ:مكتب الإسلامية،2001م.
v    مولانا محمد نورالحق. نور مجسم محمد رسول الله. ط-1. داكا:المؤسسة الإسلامية بنعلاديش،2001م.
v    خطيب الباكستان،علامة محمد شفي.  الذكر الحسين في سيرة النبي الأمين. ط-2. شيتاغونغ:مطبع الجنات،2009م.




[1] - الشيخ عبد الحق المحدث الدهلوي، مدارج النبوة، (دهلي:أدبي دنيا،1997م)،ج-2، ص-7، علامة صفي الرحمن المباركبوري، الرحيق المختوم، ط-1، (داكا:تاج كمباني،2006م)، ص-82.
[2] - إسماعيل ابن كثير القرشي الدمشقي، البداية والنهاية، ( مصر: مكتبة السيادة، 1332هـ )، ج-2،ص-260،  د.أ ك م عبد القادر، سيرة سيد المرسلين، ط-1، (شيتاغونغ:مكتب الإسلامية،2001م)، ص-17، وقال ابن كثير وهذا هو المشهور.
[3] -  المصدر السابق، ج-2،،ص-261، علامة عبد الباقي الزرقاني، شرح المواهب اللدنية، ج-1،ص-142، وصحح في المختار.
[4] - أخرجه الترمذي بسند صحيح، د.مصطفى السباعي، السيرة النبوية دروس وعبر، ص-16.
[5] - مولانا محمد نورالحق، نور مجسم محمد رسول الله، ط-1، (داكا:المؤسسة الإسلامية بنعلاديش،2001)، ص-309.
[6] - د.مصطفى السباعي، المصدر السابق،ص-16.
[7] - محمد بن عبد الوهاب النجدي، مختصر السيرة الرسول، (مصر:مطبع السلفية،1375ه)، ص-12.
[8] - مولانا عبد الأول الجونفوري، عمدة النقول في كيفة ولادة الرسول، حافظ محمد عبد الجليل، نور نبي، ط-4، (داكا:مكت المدينة،2007)،ص-29-30.
[9] - عبد الملك بن هشام بن أيوب المعافري، سيرة ابن هشام، ج-1، ص-163.
[10] - عبد الملك بن هشام بن أيوب المعافري، المصدر السابق، ج-1، ص-162-163، علامة صفي الرحمن المباركبوري، المصدر السابق، ص-83-84.
[11] - جلال الدين السيوطي، خصائص كبرى، (مصر:دار التوفيقية،2010م)، ج-1،ص-85، علامة محمد شفي خطيب الباكستان، الذكر الحسين في سيرة النبي الأمين، ط-2، ( شيتاغونغ:مطبع الجنات،2009م)، ص-128، مولانا محمد نورالحق، المصدر السابق، ص-329.
[12] - مولانا محمد نورالحق، المصدر السابق، ص-327.
[13] - عبد الملك بن هشام، المصدر السابق، ج-1،ص-164.
[14] - مسلم بن حجاج الكشيري، صحيح مسلم، (دهلي:مكتب الرشيدية،1378ه)، ج-1، ص-92.
[15] - الإمام أحمد بن محمد القسطلاني، المواهب اللدنية، ط-3، (باكستان:مكتبة المدينة،1431ه)، ج-1،ص-30.
[16] - علامة صفي الرحمن المباركبوري، المصدر السابق، ص-85.
[17] - عبد الملك بن هشام بن أيوب المعافري، المصدر السابق، ج-1، ص-178.
[18] - محمد ابن سعد، الطبقات الكبرى، (الهند: مطبع بريل، 1322هـ )، ج-1،ص-118.
[19]- محمد ابن سعد، المصدر نفسه، علامة صفي الرحمن المباركبوري، المصدر السابق، ص-85.
[20] - علامة صفي الرحمن المباركبوري، المصدر السابق، ص-86.
[21] - جلال الدين السيوطي، المصدر السابق، ج-1،ص-84، علامة عبد الباقي الزرقاني، المصدر السابق، ج-1،ص-194، محمد بن عبد الوهاب النجدي، المصدر السابق، ص-16.
[22] - عبد الملك بن هشام بن أيوب المعافري، المصدر السابق، ج-1، ص-190.
[23] - محمد بن سعد، المصدر السابق، ص-129.
[24] - محمد بن عبد الوهاب النجدي، المصدر السابق، ص-31.
[25] - الدكتور مصطفى السباعي، المصدر السابق، ص-17.
[26] - علامة عبد الباقي الزرقاني، االمصدر السابق، ج-1، ص-198.
[27] - عبد الملك بن هشام بن أيوب المعافري، المصدر السابق، ج-1، ص-189-190.
[28] أحمد بن علي بن حجر عسقلاني،  فتح الباري،  (بيروت: دار السلام، 2004م)، ج-7، ص-105.
v      [29] - علامة محمد شفي خطيب الباكستان، المصدر السابق، ص-172-174.